ما بعد بعد العرض الإيراني والإستعراض السياسي .. ربيع لبنان – د. طارق عبود – بيروت

د. طارق عبود | أكاديمي وباحث سياسي

في مقالتي السابقة قبل بضعة أيام، حاولتُ ألّا أكون متشائما، وأن أترك فسحة أمل لعلّنا نتلمّس تغييراً، ما، ولكن تطورات الأيام السابقة، أصبح واضحًا أنّ معظم هذه الطبقة السياسية همّها في مكان، وهمّ الناس في مكان آخر. لذا سأكون واضحًا وشفافًا.
أولًا:
من يتابع وسائط التواصل الاجتماعي، وما يقوله الناس، يجد الاعتراض الكبير والسخط الواسع من “الجماهير الغفيرة” يعتقد أنّ ربيع لبنان على الأبواب، وأنّ موجة من الوعي عابرة للطوائف والانتماءات تجتاح اللبنانيين، وتدفعهم إلى التخلي عن كل الذين نهبوا مالهم، ودمروا حاضرهم، ومستقبل أبنائهم. فمنذ ما قبل الانتخابات النيابية، بل ومنذ بضع سنين شعر المتابعون أنّ هناك شيئًا ما يشبه الثورة، سيحصل. ولن ينفع السياسيين بعد اليوم كل مراوغاتهم، ثمّة أحداث كثيرة مرّت سأستشهد منها بثلاثة فقط ، مرّوا في الفترة الأخيرة وأظهرو قصورًا في الوعي الجمعي في مقاربة اللبنانيين، ليس لمصلحتهم فقط، بل وفي تشخيص هذه المصلحة والدفاع عنها.
المشهد الأول، عندما يخرج أحد المسؤولين التنفيذيين، على الملأ بعد فضيحة “مجارير الرملة البيضاء” ويقول إنّ الدولة ممثّلة بمجلس الإنماء والإعمار، كانت قد دفعت ثمن محطة تكرير لمياه الصرف الصحي مليارًا من الدولارات الاميركية، ولم يجدوا لها مكانًا ليضعوها فيه. وانتهى الأمر.
المشهد الثاني، هو ما أوردته بعض الصحف عن نية الحكومة استدانة أربعمئة مليون دولار، سيذهب منها مئة وعشرون مليون دولار للمستشارين، وسبعون مليون دولار لتشغيل النازحين السوريين، ودمجهم في المجتمع اللبناني. والمشهد الثالث والأكثر وضوحًا ومساسًا بحياة اللبنانيين ويومياتهم، وهو موضع العرض الإيراني لإصلاح موضوع الكهرباء وحسمه في لبنان، لمرة واحدة وأخيرة.
لماذا لم يحرّك معظمُ اللبنانيين ساكنًا جرّاء رفض العرض الإيراني لحل مشكلة الكهرباء؟ واتركوا موضوع الدفاع الجوي جانبًا الآن، وهل يفضّل معظم اللبنانيين استمرار الوضع على ما هو عليه، من عتمة من جهة، ومن دفع فاتورة باهظة لأصحاب المولدات من جهة أخرى، ومن إذلال لهم، على أن تأتيهم الكهرباء بمساهمة إيرانية؟
أنا لا أتكلم هنا، على فئة واحدة، وعلى جماهير خط سياسي واحد، بل إنّ معظم اللبنايين لم يشعروا أنهم معنيون بمقاربة هذه المشكلة ومناقشتها، والتعليق عليها، وتحميل المسؤولية إلى من رفض العرض، طالما أنّ إثنين من كبار السياسيين حسما أمر اللبنانيين جميعهم، ووأدا العرض الإيراني حال ولادته الرسمية في أثناء زيارة وزير الخارجية محمد جواد ظريف إلى بيروت، خوفًا من “زعل” الأميركيين والمجتمع الدولي، الذين لا نقدر على زعلهم، ولأنّ السمسرة غير متاحة مع الإيرانيين. نستطيع الإستنتاج أنّ ما حصل دليل على كيفية إخضاع الطبقة السياسية للجماهير، بمجرد أن تشير إلى طائفة أو مذهب أو انتماء اي جهة تريد المساعدة في حلحلة الوضع الكارثي الاقتصادي في البلد.
دعونا نقلب المشهد، لو أنّ المملكة العربية السعودية – مشكورة مسبقًا – أرادتْ أن تقدّم ما تقدّم به الإيرانيون، ورفض سياسيو “المحور الآخر” العرض السعودي. ماذا كان سيحصل في الشارع، وفي الصحافة وعلى مواقع التواصل؟ وماذا كان سيُتّهم الرافضون للعرض؟ والسؤال الأكثر أهمية: هل أنّ الناس في الضاحية وفي الجنوب وفي البقاع كانوا سيخضعون، ويبلعوا هذا الموقف، أم أنّهم كانوا سيرفعون الصوت في وجه ممثليهم في البرلمان، وفي الحكومة؟
ثانيًا:
بعد جلسات مناقشة البيان الوزاري الماراتونية، بوسعنا أن نورد بعض الملاحظات السريعة.
لقد ظهر واضحًا أنّ معركةً، نتمنى أن تكون حامية وطاحنة، ستدور في قادم الأيام، على خيارات البلد الاقتصادية والاجتماعية، بعدما حُسمت المعركة السياسية في لبنان وفي الإقليم. وأنّ موضوع رفض العرض الإيراني، ولو تمّ تجاوزه، لن يمر مرور الكرام، وسيؤسّس لمشهد مختلف، لأنّ من اعترض عليه، عليه أن يقدّم البديل المنطقي، وبالكلفة نفسها، وسنا جاهزين لسماع معزوفة بيع جزء من قطاع الكهرباء إلى القطاع الخاص، وهذا كان حلم وطموح وهدف غير سياسي في الماضي والحاضر، والمستقبل.
لقد سال حبرٌ كثير، وعَلَتْ اصواتٌ، وبُحَّت حناجرُ، تعليقًا على ما قاله النائب حسن فضل الله باسم المقاومة في المجلس النيابي. وحسبَتْ معظم الجماهير إنّ ما قاله غير كافٍ، طالما لم يسمِّ الرجلُ الأشياء بأسمائها، أي يسمي الفاسدين والسرّاق. ولكن السؤال هو: هل من حق النائب أن يسمي أسماء المتهمين بالفساد، وماذا سيختلف عندها عن الذين يطلقون الاتهامات السياسية عند كل حدث، ثم يقولون إننا أخطأنا، وكان اتهامًا سياسيًا، حتى لو مكث أربعة من كبار ضباط البلد أربع سنوات وراء القضبان؟ وأين هي السلطة القضائية والرقابية في لبنان؟ وما هو دورها؟ في تجربة سابقة، تم تسمية الأسماء، في ملف الإنترنت غير الشرعي، وعقدت لجنة الإعلام الإتصالات عشرات الجلسات، ووصل الملف إلى خواتيمه، ولكن غير السعيدة، واختفى بقدرة قادر. إذًا المسألة ليست محصورة بتسمية نائب أو أكثر الفاسدين، إنما يخضع الموضوع في لبنان لاعتبارات كثيرة ومتنوعة لا مجال الآن لذكرها.
الواضح “أنّ الجماهير الغفورة” في لبنان، مثلما اتكّلت على المقاومة في قتال إسرائيل، وحسِبَتْ نفسها غير معنية بهذه المعركة، ولا في قتال التكفيريين، من غير أن يحرّك معظمهم ساكنًا، بل كان الكثير منهم يقف بوجه المقاومة، ويحاسبها على كل عملية وعلى كل إنجاز، وعلى التدخل في الحرب السورية. هم الآن يريدون من المقاومة أن تتصدّى وحيدة لهذا الاستحقاق، من دون حتى أن يدلوا بدلوهم، ولو بتغريدة على وسائط التواصل الاجتماعي.
ثالثًا:
لقد ظهر رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري بعدما نال ثقة المجلس النيابي بأغلبية مريحة وواضحة، غيرَ مكترث بكل ما قيل، – وبدا مطمئنًا أنّ أغلب ما عُرضَ – باستثناء كلام فضل الله- هو للاستعراض، والتحشيد الجماهيري لا غير، ولن يؤثّر، لا في مشروعه، ولا في خياراته “الصعبة”، وطالما انّ البلد وصل إلى حافة الهاوية، فلن يجرؤ أحدٌ على معارضة لا توصيات “مؤتمر سيدر” المقدّسة، ولا خطة ماكينزي “الرائعة” ولا مشروع خصخصة القطاع العام “الواعدة” ولا تحذيره من مغبّة المساس بامتيازات القطاع المصرفي، وقطع الطريق على أي نقاش في إسهام هذا القطاع في إطفاء خدمة الدين. والدليل أنّه لم يُجْرِ أيَّ نقد لسياسات حكوماته الكارثية السابقة، وما زال – هو وفريق مستشاريه- والمعجبون الجدد فيه، مصرًا على تنفيذ ما يعتقدوه صحيحًا وسليمًا وناجعًا.
من الممكن أن تكون هذه الهمروجة التي أثاروها، وكانوا متقدمين في التحذير من الوضع الاقتصادي لسبب واحد، هو وضع اليد على قروض مؤتمر سيدر، وما سيحصل لاحقًا غير مهم. فالكثير من السياسيين وأصحاب المصارف وغيرهم، يمتلكون أكثر من جنسية، وأكثر من منزل ودارة وقصر في غير بلد غربي، وإذا ما حصل الانهيار، لن يكلّفهم ذلك إلا نظرة “حنان ووداع” مؤقت من الطائرة الخاصة إلى بيروت الجميلة من فوق، وهم في طريقهم إلى بلدانهم الثانية، إن لم تكن الأولى.
لقد عاد السيد نصرالله اليوم مرة جديدة، وأكّد عزمه على خوض هذه المعركة ولن ينتظر أحدًا، ولا أعتقد أنّ الرجل يمزح في هذا الموضوع.
سؤال أخير: أين رئيس الجمهورية من كل ما يحصل، وسيحصل؟

شارك المقال:

زر الذهاب إلى الأعلى