ملاك درويش | بين الحقيقة والوهم .. قراءة في تعقيدات المشهد السوري وتأثيراته الإقليمية

ملاك درويش 
يضيق الأفق بالتحليلات المتداولة حول ما يجري في سوريا والمنطقة، سواء عبر وسائل الإعلام أو في الأحاديث العامة وحتى داخل المؤسسات الرسمية وغير الرسمية. هذه التحليلات تنقسم بشكل واضح إلى مسارين: الأول يعتمد على مناهج التفسير العلمي للظواهر السياسية والأمنية، والثاني يسير في اتجاه غيبي وديني، مما يشكل توجهات متباينة لدى الجمهور. لكن السؤال الأساسي الذي يطرحه الوضع الحالي: أين الحقيقة في هذا المشهد المركب والمعقد؟
محدودية التفسير المادي: صورة غير مكتملة
بالنظر إلى المسلك العلمي الذي يعتمد على مخرجات العلوم السياسية والاستشرافية والتحليل الإعلامي، فإن ما يقدم للجمهور، مهما بدا شاملاً، ليس سوى جزء بسيط من الصورة الكاملة. أسئلة رئيسة تبقى دون إجابة، مثل:
• طبيعة التنسيق الروسي – الإيراني في سوريا، إن وجد، وماهيته.
• تفاصيل الاتفاقات والضمانات المقدمة للنظام السوري.
• مدى وعي القيادة السورية بمسار الأحداث وتداعياتها.
• خفايا التنسيق الأمريكي – التركي – الإسرائيلي والخليجي.
هذه الأسئلة تعكس تشابكاً في المصالح والصفقات بين القوى الكبرى والإقليمية. لكن الحقيقة تبقى غائبة في ظل غياب المعلومات المتكاملة، حتى لدى القوى الفاعلة نفسها كأمريكا وروسيا وإسرائيل. ما يعرض على الساحة الإعلامية، وإن كان معززاً بالوثائق والصور، لا يعكس سوى جزء محدود من الحقيقة.
الواقع بين المفاجآت وعدم الإدراك
حتى لو افترضنا توافر معلومات شبه مكتملة لدى طرف معين (وهو أمر مستبعد)، فإن الصراعات المعقدة تحمل دوماً نتائج عرضية ومفاجآت غير متوقعة تخرج عن نطاق السيطرة أو التخطيط المسبق. هذه النتائج تجعل من المستحيل التنبؤ بصورة دقيقة بمستقبل الأحداث، مما يضيف غموضاً إلى مشهد ملتبس أصلاً.
الإرهاق التحليلي والتصدي للخطاب السطحي
من المؤسف أن نجد عدداً كبيراً من “المحللين” ينصبون أنفسهم كأوصياء على الحقيقة، بينما هم بعيدون كل البعد عن إدراك أبعاد هذا الحدث. خطاباتهم تضيف إلى التشويش، وتساهم في تضليل الرأي العام، بدلاً من توضيح الحقائق أو تقديم رؤية مستنيرة.
أما التفسيرات الغيبية التي تعتمد على المنهج الديني، فإنها غالباً ما تكون تكهنات وتأويلات بعيدة عن الواقع. تسعى هذه التفسيرات إلى إسقاط الأحداث على نصوص دينية بطريقة تعسفية، مما يثير الاضطراب لدى الجمهور ويخلق حالة من التشويش النفسي والمعنوي. والأخطر من ذلك، أن هذه التأويلات قد تقود أصحابها إلى الوقوع في مشاكل عقائدية خطيرة.
لا شك أن ما يجري في سوريا ليس مجرد صدفة عابرة، بل نتيجة لاتفاقات وصفقات ضخمة تشكلت عبر سنوات. الأخطاء البنيوية في سياسات النظام السوري لعبت دوراً كبيراً في دفع الأمور إلى ما هي عليه اليوم، لكن التداعيات لا يمكن حصرها داخل حدود سوريا. المنطقة بأكملها محملة بأحداث ومفاجآت قادمة، ستترك بصماتها على الأوضاع الإقليمية.
في نهاية المطاف، تبقى حركة الأحداث الكبرى ضمن مخطط كبير وضخم. لكن هذا التخطيط لا يمكن فهمه أو تفسيره بتلك الطرق السطحية التي يطرحها بعض الدجالين والمدعين. المسؤولية اليوم تقع على عاتق الأفراد والمؤسسات للبحث عن الحقيقة بعيداً عن خطاب التشويش والتحليل المبتذل، ولإعادة تشكيل الوعي العام على أسس أكثر عقلانية واستنارة.
الأحداث الجارية ليست مجرد أرقام أو أخبار عاجلة، بل هي صراع أعمق على مستقبل شعوب بأكملها، وتحتاج إلى قراءة أكثر شمولية وإنصافاً لفهم ما يدور حقاً خلف الكواليس.

شارك المقال:

زر الذهاب إلى الأعلى