عبير بسّام | الإعلام الغربي والمهمّة المستحيلة في تبرئة الكيان
عبير بسّام
منذ بدأت الحرب على غزة بعد طوفان السابع من تشرين الأول/ اكتوبر الماضي، والإعلام الغربي يسأل ويسهم في جمع الإدانات ضد حركة المقاومة حماس، وكان السؤال “هل تدين حماس؟” سيّد الأسئلة الذي انتشر على واجهات الإعلام وتصدر البرامج السياسية والتقارير واللقاءات. واتُهِمَت حماس بارتكاب الجرائم، ولكن بعد قصف سيارة الإسعاف في مدخل مشفى الشفاء في غزة اتخذت الروايات منحًا آخر. ومع نشر وسائل التواصل الإجتماعي الأخبار والفيديوهات حول استهداف المستشفيات في غزة، وانتشال جثث الأطفال الضحايا من بين الأنقاض، واللتان كانتا من أهم أسباب التغيير الذي رأيناه في العالم واندفاعتهم إلى الشوارع دعمًا لغزة. وبعد انتشار الأخبار لم يعد الإعلام الغربي قادرًا على إخفائها أو التغاضي عنها.
لم تعمل الصحافة الغربية يومًا خارج إطار القرار السياسي للدول العميقة في العالم الغربي. وقد كممت أفواه الصحافيين الغربيين الذين حاولوا الخروج عن هذا القرار في الشهرين الماضيين، ومنهم “نيويورك تايمز”. ولذلك يجب الانتباه إلى أن تصحيح الرواية الغربية من خلال الحديث عن المجازر في غزة لا يحاول سبر أعماق المشكلة عبر القراءة في الصراع العربي- الإسرائيلي، أو الفلسطيني- الإسرائيلي، بل يربطه دائمًا بالحدث الآني، مثل استهداف مشفى الشفاء بمجزرة ويربط الاستهداف بأنه استمرار لما حدث في السابع من تشرين الأول/ اكتوبر، وليس نتيجة لصراع مع احتلال عنصري يحاول إبادة أو تهجير شعب بأكمله ووصل عمره اليوم إلى سن 75 عامًا.
ومع التصريح الذي أطلقه مارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، أن “المستشفيات [في غزة] أصبحت أماكن لاقتراف المذابح”، إضافة إلى ما جاء في كلامه عن تحوّل المذابح في غزة إلى مستويات جديدة من الرعب، لم يكن من الممكن بعدها إخفاء الحقائق، وخاصة أن ذلك جاء مترافقًا مع تصريحات المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارغريت هاريس، والتي أشارت إلى أن المستشفيات من المفترض أن تكون ملاذًا آمنًا يأتيه الناس للعلاج ولكن في غزة هناك رغبة لتحويلها “إلى أماكن للموت واليأس والخطر، وهذا ما لا يجب أن يحدث أبدًا”. ومن خلال جولة على الإعلام الغربي، يتبين أنه لم يستطع إخفاء الأمر، وإن كان يحاول تقديم تبرير في كل مرة لقصف المستشفيات، وفي طليعتها ما حدث في مشفيي الشفاء والرنتسي للأطفال، وبقي يعمل على تورية ما يمكن توريته على قدم وساق. ويبدو أن استمرار هذا المنهج رهن بحاجة الولايات المتحدة لتسجيل موقف ما يعطي الرئيس الأميركي جو بايدن دفعة جديدة من أجل رفع حظوظه التي باتت في أسوأ أحوالها، وهو يتجه اليوم نحو انتخابات الرئاسة الأميركية في 2024.
بعض الصحف كان يحذر، فـ”الغارديان”، وفي مقالها في 19 تشرين الأول حذرت من أن ما يحدث في المستشفيات والمدارس في غزة من قصف يستهدف الجرحى والنازحين هو مخالفة للقانون الدولي وخاصة أن ما حدث يُعرّف بأنه مجازر جماعية. وكتبت أن: “الضربات أدت إلى نزوح جماعي للنازحين”، وهنا لا تسمي الغارديان قصف النازحين بأنها ضربات ضد مدنيين ومعظمهم من النساء والأطفال وكبار السن. وتكمل “واصل آلاف الفلسطينيون الفرار جنوبًا من شمال غزة، يوم الجمعة، بما في ذلك بعض أولئك الذين لجاؤوا إلى الشفاء والرنتيسي”. ونحن جميعًا نعلم نتائج هذا النزوح الذي كان حكمًا بالإعدام على الخدج في الرنتيسي وعلى مرضى الكلى والسرطان والجرحى ذوي الحالات الحرجة في جميع المستشفيات. ومقال الغارديان الذي تضمن تصريحات المسؤولين في المنظمات الدولية والإنسانية، والذين يصفون الوضع بأنه كارثي، لا يأتي على ذكر هذه الأحداث بل ينتهي كما المقالات على جميع المواقع بمزاعم الجيش الصهيوني بأن مهاجمة مشفى الشفاء كان بناء على معلومات بوجود عناصر من “حماس”.
ما جاء في الـ”غارديان” وبالترتيب نفسه هو ما ذكرته CNN، والإذاعة الوطنية العامة في الولايات المتحدة، مع أن الأخيرة كانت تنتهج أسلوبًا أكثر “إنسانية” نحو الفلسطينيين. المنهج اتبعته “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”إيكونومست” وغيرها من المواقع الأجنبية. وجميعها أوضحت في مقالاتها وفي نشراتها أن “إسرائيل” قامت بقصف المستشفيات في غزة وأحدثت فيها أضرارًا كبيرة، وقد أوردت في تقاريرها عن قصف مستشفى الرنتيسي للأطفال، وقصف مستشفى القدس، ومستشفى الشفاء ونسبت أنباءها لكل من وزارة الصحة الفلسطينية وتقارير منظمة الأمم المتحدة ولشهود عيان ومنظمات إنسانية تعمل على الأرض.
وفي الحقيقة أنه مهما تكن طريقة عرض التحليل حول ما حدث في المستشفيات وأنها مخالفة صريحة لإتفاق جنيف من خلال استهدافها فقط، ولكن بعد استعراض الكارثة الإنسانية في المستشفيات الفلسطينية، فإنّ ما يبحث عنه الإعلام الغربي هو اظهار بعض المصداقية التي انهارت أمام جمهوره بسبب التغطية ليس على جرائم الإحتلال فقط، بل من خلال التغطية على عمر الاحتلال والإضطهاد الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وهذه هي القطبة المخفية التي تثير حفيظة الشعوب الغربية.
والدليل، أن من يقرأ الإعلام الغربي منذ قصف المشفى المعمداني، إلى مجزرة مشفى الشفاء، إلى استهداف المستشفيات المراكز الصحية في جباليا أو خان يونس، وآخرها في مشفى الناصر، يجد أن هذا الإعلام كان يعاني في المراحل الأولى من نوع من الصدمة، اذ لم يعرف هؤلاء إذا ما كانوا قادرين على تورية العدد الهائل من المجازر الوحشية وفي حالة ذهول مما يمكن أن تفعله “إسرائيل”. انقلاب الموازين وانقلاب الصورة أخذ حيزًا كبيرًا في هذه المؤسسات الإعلامية، فمثلًا، ابتدأ بيرس مورغان باستضافة كل ناشط انتقد الكيان الإسرائيلي بسبب ما فعله من مجازر واحدة تلو الأخرى، من أجل دفعهم نحو التراجع عن مواقفهم عبر ردهم لتقييم ما حدث في 7 أكتوبر ومحاولة انتزاع إدانة بالإرهاب بما يتلاءم والصورة النمطية في الغرب. وهذا يحدث حتى خلال قراءة المقالات حول حصار المستشفيات وانتشار الأوبئة بسبب نقص المياه والغذاء والدواء، والتي تحاول تحويل الأمر على أنه هجوم حماس الذي يتحمّل تبعاته الشعب الفلسطيني.
ضمن سياق استعادة المصداقية الصحفية، جاء التحقيق الذي أجرته صحيفة “لوموند” الفرنسية، والذي أرادت من خلاله إعادة ماء الوجه للصحافة المفبركة، ونفت اللوموند في تحقيقها ما حاولت كل من الإيكونومست والغارديان والـ CNN وغيرهم تثبيته في ذاكرة متابعيهم في الإذاعة والمواقع، أو الجرائد والمجلات، والتلفزيونات. ودحضت اللوموند الفرنسية في 3 كانون الأول/ ديسمبر المزاعم الصهيونية حول استخدام حركة حماس مستشفى الشفاء كمقر للقيادة وإدارة العمليات العسكرية. ولكن هذا التحقيق جاء بعد أن نفذ الصهاينة مآربهم في مشفى الرنتيسي للأطفال وفي المستشفيات الأخرى ومراكز الأونروا، وجاء تحت تأثير صراخ مؤسسات الأمم المتحدة التي استشهد فيها أكبر عدد من موظفي الأمم المتحدة حول العالم في مراكز رعائية واستشفائية.
واليوم وبعد أن انتهت “إسرائيل” من تدمير شمال القطاع وأخرجت مستشفياته عن العمل بسبب النقص في الوقود وبالتالي الكهرباء والماء، وبالتأكيد الدواء ابتدأ مسلسل الهدم والدمار يتجه نحو جنوب القطاع ومستشفياته. في مقال لفرانس 24، في بداية هذا الشهر، عند بدء الهجوم على خان يونس، حذر المقال في بدايته أن هناك 12 مستشفى فقط، تعمل بشكل جزئي، وأن القصف الصهيوني بدأ يقترب شيئًا فشيئًا على مستشفى الناصر، وكأن المقال كان يحذر من مجزرة أخرى في مشفى الناصر. من خلال وصف دقيق للحالة الصحية في مستشفى الناصر، حاول أن يكون كاتب المقال “موضوعيًا” بقدر الإمكان من خلال توصيف الوضع القائم. ولكن هذه المرة يبرز المقال حالات خاصة، وابتدأ من خلال التحقيق بتسمية الفلسطينيين بأسماءهم، ويستصرح آباء المصابين ومصابين من جراء العدوان، ولم يعد الضحايا والشهداء مجرد أرقام. وحذر المقال من أن الصهاينة أسقطوا المنشورات التحذيرية من بدء القصف في جنوب غزة، وطالبين من أهالي خان يونس مغادرة بيوتهم، ولكن المقال بدأ كما العادة بالتذكير بما حدث في 7 تشرين أول/ اكتوبر. إعادة التذكير بالنسبة إلى الإعلام الغربي أمر ملزم في جميع المقالات والروايات واللقاءات.
ولذلك؛ مهما تكن طريقة عرض التحليلات والأخبار حول ما يحدث في مستشفيات غزة، وتجهيل ما يحدث في مستشفيات الضفة الغربية، يحتوي في قسم كبير منه عن مبررات من أجل تعديل صورة الكيان التي هشمت القاتل للأطفال، وصورة الصحافة التي تنقل الأخبار المجتزأة والمفبركة حول القضية الفلسطينية. خلال الكلام حول واقع المستشفيات لا تستطيع هذه المواقع الغربية مقاومة الاغراء بالتذكير بعدد القتلى الصهاينة، متناسية أن معظم هؤلاء القتلى هم من الجنود الذين يحاولون القضاء على “حماس” حصرًا، من دون أن تنسى أن تذكر المواطنين في الغرب أن حماس هي منظمة “إرهابية” بحسب التصنيف الأميركي. وحتى مع دخول الحرب الصهيونية على غزة شهرها الثالث، مايزال الاعلام الغربي يتعامل مع الهجوم على المستشفيات على أنه خبر يأتي في سياق الرد الإسرائيلي على عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول.