ملاك درويش | التناقضات تحكم بلد العجائب .. ولكن؟

بقلم الاستاذة ملاك درويش

يسود على مواقع التّواصل الاجتماعيّ حالة من الانفصام بين الواقع المعاش والواقع السطحي في ظاهره، ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ التحليل وإطلاق الأحكام يكون باطلًا من دون دراسة معمّقة لكافّة العيّنات في المجتمع. فهل فعلًا ما نراه من صورة عامّة تحاكي الواقع الاقتصادي المأزوم في لبنان؟

لا شكّ أنّ التّناقضات تحكم بلد العجائب، في وقتٍ نرى فيه ليل اللبناني مختلفة كل الاختلاف عن نهاره الضبابي الذي يصارع فيه انهيار العملة الوطنية والتضخّم وارتفاع الاسعار وفقدان كل مقوّمات الحياة المعيشية.

فالمشهدية في النهار مليئة بالفوضى التي تفرد جناحيها في مفاصل حياةٍ باتت زاخرة بالأزمات، فبين الدواء والخبز والمحروقات غلاء فاحش يكاد يكون سببًا رئيسيًا يدفع المواطن للعيش بحالة يأسٍ وسوداوية. ولكن
في قبال ذلك، يعيش جزء من اللبنانيين (كي لا نعمّم لأن التعميم لغة الحمقى) في حفلة من الجنون، إذ أنّ مشهد العاصمة بيروت ليلًا المليء بالحياة يعطي صورة لمن لا يتعمّق في الرؤية بأن بلدنا بألف خير! فكم من مرة سمعنا من حاكم المصرف رياض سلامة أن “الليرة بخير” وبالواقع وصلت الليرة إلى أدنى مستوياتها منذ العام ١٩٩٢ حتى اليوم..

عزيزي المحلّل عندما تريد أن تقرأ واقع بلد يضجّ بالأزمات عليك أن تخوض في الأحياء وبين المباني، في الدكاكين وداخل المنازل التي باتت تفتقر الحصول على الخبز.

ومن هذا المنطلق، وفي مشهدٍ مغاير لما يتناقله مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعيّ في إطلاق أحكامهم، نرى في الواقع أن الديون فاقت ال ١٠٠ مليار دولار، والبطالة تخطّت الـ40 في المائة، أما الفقر فقد شمل قرابة 75 في المائة من اللبنانيين، حيث اختفت الطبقة الوسطى التي تشكّل غالبية الشعب اللبناني والتي كانت هي المحرّك الرئيسيّ للاقتصاد، لا سيما مع فقدان القيمة الشرائية لليرة اللبنانية ما يقارب الـ90 في المائة من قدرتها أمام العملات الأجنبية.

وهذا إن كان يدلّ على شيءٍ، فهو أن البلد بات مقسوم إلى شطرين: الأوّل بين مطاعم وسهرات وسياحة، والثاني بين فقر وجوع وجرائم وخطف وسرقات. ولعلّ الظاهرة التي نشهدها اليوم لا تعكس رقص اللبنانيّ على أزمته، إنّما في الحقيقة هي ظاهرة للمغتربين والسّيّاح الذين يرتادون هذه المقاهي ويمارسون حياتهم بشكلٍ طبيعيّ.

فالمجتمع اللبناني اليوم يشهد تفاوتًا حادًا بين الفقراء والأغنياء، في وقتٍ اختفت فيه الطبقة الوسطى وازدادت نسبة الفقر كما ذكرنا سابقًا، وهذا التفاوت الحادّ اقتصاديّاً انعكس تفاوتاً في السلوكيات التي تُترجم بمشاهد أشخاص يبحثون عن قوتهم أمام مكبّات النفايات، وأخرى بوجود فئات من أصحاب السيارات الفخمة وروّاد السهر والفنادق والمطاعم.

حيث أنّ الثابت في تفسير هذا التناقض بأنّه شكل من أشكال الإحباط، فالميسور محبط نفسيًّا ولكنه يذهب للسهر فقط لأنه يمتلك المال، فيما الفقير يهرب بطريقته من الإحباط الذي يحاصره بالسهر في الأماكن التي تتناسب مع قدرته، فالطّبقتين تحت ضغط كمّ هائل من المشاكل ويتعرضان للضغوط بشكل متساوٍ، ولكن الفقير يعبّر بأسلوب مغاير عن الميسور.

واستخلاصًا لما سبق عن التناقض بين الصّورتين في وقتٍ تفسر فيه الأرقام ما لا يستطيع أحد أن يقرأه ويحلّله، فالإنهيارات متواصلة على جميع الأصعدة، فيما لا تتّخذ السلطات المعنية أي تدابير لوقف هذا الانحدار، وفي قبال ذلك، يتصدّر ملف الأمن الواجهة في ظلّ الأوضاع الاجتماعية المتردّية فيما تبدو الجهات المعنية عاجزة عن ضبطه، ما ينعكس خللاً في الممارسات داخل المجتمع أيضًا.

وفي هذا الإطار، وبدلًا من اطلاق الأحكام اللّامنطقية لا بدّ من التصويب على نقطتين أساسيتين هما: التركيز على الفقر الذي يعتري أغلب الأسر والعوائل، وردع أي بيئة حاضنة لارتفاع جرائم القتل والسلب، خصوصاً من قبل مجموعات من الأجانب المقيمين في لبنان الذين هم بحاجة للأموال من أجل الاستمرارية، لذلك فإن نسبة الجرائم ارتفعت بين عامي 2021 و2022 نحو 25 في المائة، على الرغم من أنه في الأشهر الأخيرة اقتصر ارتفاعها على 1 إلى 1.5 في المائة، ولكن مقارنةً بالسنوات الماضية لا تزال النّسبة مرتفعة.

شارك المقال:

زر الذهاب إلى الأعلى