ملاك درويش | من الثروة إلى المعرفة .. علاقات ودول
ملاك درويش
من الثروة إلى المعرفة، هكذا بات معيار تقسيم المجتمعات البشرية اليوم. فأصبحت المعرفة محورا للتقدم بين الدول في عصر التكنولوجيا او تكنولوجيا المعلومات، بعكس معايير الثورة الصناعية التي كانت تعتمد اكثر على الثروة.
الفجوة بين البلدان المتقدمة والنامية في عصرنا الحالي تخطّت مبدأ الموارد لتصبح فجوة معرفيّة، نسبة للقيمة التي تقدمها المعلومات اليوم كمورد مهم للفرد والمجتمع والدولة على مختلف الأصعدة والسياقات. هذا الأمر يؤدي إلى طرح العديد من التحولات المهمة في مجال تنظيم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعيّة..
وفي قبال ذلك، ونسبة لما تشكّله المعرفة بصفتها سلعة معلوماتية لا غنى عنها في القوة الإنتاجيّة التي فرضت نفسها لتكون في طليعة التنافس العالمي من أجل إحراز القوّة. ومن غير المستبعد أن تدخل الدول في حروب من اجل السيطرة على المعلومات، كما حاربت في الماضي من أجل السيطرة على المستعمرات.
فكيف لهذه الثورة الشاملة التي يشهدها العالم اليوم من تطور في سبل المعلومات والاتصالات التّأثير في مسار العلاقات الدولية؟
لقد كان لنهاية الحرب الباردة وعولمة العالم على وفق رؤية كونية تتجاوز حدود ومفاهيم السيادة الوطنية والقومية الأثر الواضح في ترتيب العلاقات الدولية، وأصبحت تلك العلاقات تدور حول محورين،
الأول: هو الإعتماد المتبادل بين الدول من أجل الوصول إلى خطوط مشتركة للمصالح المختلفة بين هذه الدول.
والآخر: هو تبعية وارتهان الدول الضعيفة للدول القوية لافتقارها توفير الحاجيات إلى مواطنيها. وهذا إن كان يدل على نشأة علاقات جديدة بين دول تتمركز حول الذات إلى حد كبير، ولكنها ليست منغلقة على نفسها إذ أنها تدخل في إطار صراعات دولية جديدة، مما يشير لنوع جديد من التفاعلات ومصدر تلك التفاعلات يكمن في المقوم التكنلوجي المؤثر على السياسة الخارجية للدولة وبصورة تمكّن الدول ذات النفوذ العالمي وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية تكريس هيمنتها العالمية عبر آليات التطور التي اعترت هذا المقوم.
وفي هذا الصّدد، نستشهد بقول وينستون تشرشل بأنّ “امبراطوريات المستقبل ستقوم على العقل”.
فقد أصبحت قوة الدولة في اتخاذ القرارات الرشيدة تعتمد على قدرتها بالاختراع والابتكار وانتاج التكنولوجيا العلمية وعدد من براءات الاختراع، والتي بدورها تدعم سياسة الدولة. الامر الذي دفع البعض لاضافة مصطلح القوة الاقتصادية ونوعها في حروب جديدة يطلق عليها حرب المعلومات، وهذا يؤكّد مدى خطورة المقوّم التكنولوجي وأثره في سياق العلاقات الدولية ليوائم المثلث الاستراتيجي للقوة الممثّل ب (العسكري، الاقتصادي والتكنومعلوماتي).
إذا، الثورة التكنومعلوماتية باتت المتغيّر الرئيسي في تحديد ورسم هياكل القوة في النظام الدولي المعاصر، لتسهم أيضا في انتاج انماط جديدة من العلاقات والتفاعلات السياسية والاقتصادية والقيمية التي تختلف عن الانماط السابقة، لنكون امام نشوء نظام دولي جديد كليّا.
وفي وقت تتنامى فيه أهميّة رأس المال الفكري بدلا من رأس المال المادّي، الذي يجتاز الحدود السياسية للدولة مخترقا للعديد من الحواجز. لم تعد الحدود الجغرافيّة حدودا فاصلة بعدما أصبح الانسان عالمي يتفاعل مع مختلف الاحداث متخطيا إقليمه ومنطقته، كل هذه الأمور نتج عنها تغيرا في مسارات وسياقات العلاقات الدولية على مختلف المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لذلك تغيرت مفاهيم عديدة في هذا الاطار ولم يعد للمفاهيم الوطنية والقومية نفس الآثار التي كانت عليها سابقا، بحيث بتنا أمام سيادة مرتهنة تفتقر للسيادة بعد تدفق الكم الهائل من المعلومات داخل الدول من المجتمعات الخارجية، لتنتج طبيعة جديدة للعلاقات بين الدّول.
فإضعاف النظم الحاكمة الشموليّة وشيوع الديمقراطية (بمعانيها المختلفة) على المستوى الكوني، يعزّز مصالح السياسة الخارجية الاميركية عبر بث مبادئها إلى العالم.. ناهيك عن تآكل السيادة الوطنية وتشتت السلطة المركزيّة متاثرة بالسياسات الخارجيّة وعملية صنع القرار.. أيضا تغيّر طبيعة القوّة ومفهومها، وفي هذا المجال إن تقنية المعلومات والاتصالات تقف في صف واحد مع المعنى التقليدي للقوة في المجتمعات المتقدّمة، فمن يملك التكنولوجيا هو الأقوى.. إضافة الى ذلك، تحول المنظمات الهرميّة الكبرى الى شبكات اصغر حجما واكثر مرونة.. بهذه التأثيرات تنبّأ فوكوياما (عالم سياسي واقتصادي)، لتسليط الضوء على الدور الكبير الذي تلعبه التكنولوجيا في تحقيق مستوى المكانة العالمية للدولة، مما يؤدي الى زيادة الهوّة بين الدول النامية والمتقدّمة.
بل إن ذلك من شانه ان يقود بالدول الى موضع الدولة التابعة أو المنقادة في قرارها السياسي لصالح الدول المالكة لتلك القدرات. فعالم اليوم هو عالم سياسي بأذرع إقتصادية وتكنولوجية ومعلوماتيّة وليس عالم سياسي بأذرع عسكرية كما كان في السابق! فمن يحرز التفوق التكنولوجي والمعلوماتي سيحقّق السيادة التلقائيّة على الأسواق العالميّة بما فيها تحقيق الهيمنة العالميّة.
ومن الهيمنة العالمية إلى اللعبة العالمية التي عرفت أميركا مفاتيحها وحددت الأطر التي من خلالها ستخوض استراتيجيّتها الكونيّة في ظل عملية التطوّر التكنولوجي المستمر. والتي من خلالها استغلت العديد من وكالات انباء العالمية، كما أنّها تسيطر على 65% من مجمل المواد والمنتجات الاعلامية والاعلانية والثقافية والترفيهية.. الأمر الذي مكّنها من اختراق جدران كل منزل عن طريق البث الفضائي ووسائل التواصل بغية التّأثير بكل فرد.
وبذلك تكون المواد الاعلامية المسوقة تجاه الدول الاخرى مقبولة الاتجاهات والانماط السلوكية والقيم الاجتماعية بما تطرحه، ما يجعل امر الاختراق المتعدد الاشكال سهلا وممكنا في اي لحظة وبأي طريقة.
أمام هذا التطوّر الواضح في إطار ثورة معلوماتية جعلت من العالم قرية صغيرة فرضت نسقا جديدا في العلاقات الدولية، قواعدها وأسسها المعلومات والاتصالات. الأقوى بها من يملك هذه الثروة التكنولوجية داخل بيئة تكنومعلوماتية وعلى درجة عالية من التطور لترسيخ بنية تحتية اخترقت جميع مجالات النشاط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي في بيئة عالميّة ستسمح للأقوى معرفيا وتكنولوجيّا بدوام البقاء بموقع ريادي في النظام السياسي الدولي.
فقراءة المشهد الإلكتروني المعاصر وتأثيره على العلاقات الدولية خير دليل على أنّ لهذه الثورة المعلوماتية دور يتعاظم مع كل تطوّر نشهده في عصر العولمة اللامحدود قد تؤدي للعديد من الحروب الإكترونية ذات دوافع سياسية دوليّة في ميدان شبكات الانترنت بأسلحة الحواسيب بين الدول الغنيّة.