سيرتا الإمام الحسين والسيد المسيح لهما قواسم مشتركة مأساة عاشوراء انتصار واضح على الخيانة

في كنيسة من كنائس جبل لبنان السريانية الارثوذكسية، تمّ إحياء ذكرى عاشوراء والنهضة الحسينيّة بطريقةٍ خاصّة من نوعها، لاقت تفاعلًا كبيرًا من كافة الطوائف، حيث برز الوجه الإنساني العالمي من ثورة الحسين، حيث يلتقي أحرارُ العالم عند هذا الجرح دون أن يسألوا إلى أيّ طائفةٍ ينتمي إخوانُهم. تميّز هذا الإحياء بالتبادل الفكري والتعاطف الإنساني والوحدة الدينية بين المذاهب السماوية. فلقد أقامت مطرانية جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس بالتعاون مع المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان ندوة فكرية بعنوان: “تجليات عاشورائية من وحي اللاهوت المسيحي” في قاعة مار يعقوب السروجي بمشاركة نخبة من أصحاب القداسة والأدباء والمفكرين يتقدمهم رئيس جامعة المصطفى العالمية الشيخ الدكتور مهدوي مهر وأستاذ العلوم الاسلامية في الحوزة العلمية الشيخ مهدويان والسيد علي عيسى الطباطبائي , فضلا عن عدد من الآباء من الكنيسة السريانية الارثوذكسية . وقد كانت للشخصيات الفكرية الأدبية والدينية المسيحية كلماتٌ وقصائدُ في الحسين ألقيَت على مسمع الحاضرين في صالة كنيسة السريان الأرثوذكس، والمتابعين عبر الفضاء الافتراضي.
افتتحَ الكلام مضيف الندوة وراعيها، مطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس، المارثيوفيلوس جورج صليبا، فابتدأَ قائلًا: بسم الله الحي القيوم الواجب الوجود الأزلي السرمدي مالئ الأكوان خالق ما يرى وما لا يرى. نرحب بكم في بيتكم في قاعة مار يعقوب السروجي أحد أعظم آباء الكنيسة السريانية الأرثوذكسية من آباء القرنين الخامس والسادس ولد عام 451 وانتقل الى السماء عام 521 عاش 70 عامًا وهذا العام هو ذكرى مرور 1500 سنة على انتقاله الى السماء. فأهلًا بكم في بيت النبل والقداسة والطهر والعلم والشاعرية التي تميز بها السريان ورائدهم دائمًا كوكبان زينا دائمًا المسيحية والأدب السرياني. نحن هذه الأيام نعيش ذكرى عاشوراء التي يكرم فيها المسلمون والشيعة خاصة شهادة الإمام الحسين الذي انتقل الى السماء بغدر من حساد ومنافقين، أقاموا أنفسهم قضاةً وحكامًا من آل أبي سفيان، معاوية ابن ابي سفيان، الذي بحقده وكرهه لآل البيت تعدّى على إحدى جواهر البيت المسلم الحقيقي. وكان الإمام الحسين ضحية هذا التصرف.
وقال صليبا، نقرأ في شخصية الإمام الحسين أربع فضائل تميزه عن كثيرين وتضمه الى كثيرين. أول فضيلة هي عفّتُه، فضّل حياة الإيمان على أي منصب أو مركز يعطى له. الفضيلة الثانية هي كرمُه، وبذلُه. يذكّرني بقول السيد المسيح ” ليس حبٌّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه من أجل أحبائه”. فالإمام الحسين من أجل مبادئه وإيمانه فضل الموت والشهادة على أن يتقلد مناصب أخرى في الأمة الإسلامية. فهذه الشهادة وهذا البذل جعلا منه إنسانًأ مميزًا ليس في الإسلام وحده وإما في الأديان والأمم والشعوب كلها الصفة التالية، صفة الإخلاص. أخلص للإسلام من جوارحه وعواطفه وأخلص للإسلام إخلاص أبيه الإمام علي كرم الله وجهه والذي مات هو أيضًا شهيدًا في سبيل المبادئ التي أخذها عن ابن عمه رسول الإسلام محمد بن عبدالله. حمل الإمام الحسين هذه الصفات ودافع عنها مقارعًا الحسد والتعالي، مقارعًا كل الإساءات بالنبل لأنه نبيل وابن النبل. أين هو الإمام الحسين اليوم وأين الأعداء. الإمام الحسين في قلب رسول الله ينعمُ في السماء مع المختارين والمخلصين المضحين في سبيل المبادئ، أما الآخرون فهم في نار جهنم يحترقون في النار التي أشعلوها. هؤلاء الذين دسوا السم في الجسم صاروا اليوم ممقوتين. نحن اليوم في هذه الذكرى نصلي من أعماق قلوبنا لكي يبعث الله مرسلين يتابعون رسالة هؤلاء الذين سبقونا ويقتدوا بالذين أخلصوا لأمتهم ودينهم وأوطانهم. وأنتم أيها الإخوة الحاضرون، نشارككم كل العواطف والمشاعر الجياشة لنكون في إثر هؤلاء الصالحين. فبورك الذين يخلدون ذكرى الصالحين ليسيروا في مضاميرهم وفي أفكارهم ونواياهم الحسنة.
ثم كان الكلام للمستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان الدكتور عباس خامه يار، وكانت كلمته: جميعُ الناس معنيّونَ اليوم في ذكرى عاشوراء السنويّة. كلُّ الناس معنيّونَ بما ألمَّ بالحسين وأهله وصَحبِه، لأنّ الألمَ شعورٌ في الإنسان يولّدُ حسَّ التعاطف لدى أخيه الإنسان. وإذا كان الألمُ والتعاطفُ شعورًا إنسانيًا، فكيف إذا كان المتألّمُ رجلًا خرجَ لإصلاحِ الفسادِ في أمّتِه ولنصرةِ الحقّ والتصدّي لكلمة الباطل والطغيان؟
إنّها قضيّةُ الإنسان على مدى التاريخ، القضية التي لا تنطفئ شعلتُها ليس بسببِ الدماءِ التي سالت ظلمًا فحسب، بل لأنّها شكّلت منعطفًا تاريخيًّا ونقطةً مفصليّةً أصبحَ بعدَها شاخصًا للعيان، الحقُّ من الباطل.
إنّ بشاعةَ ما ارتُكِبَ بحقّ الحسين وأولاده وأنصاره، الذين كانوا عدةً قليلةً تحملُ الحقّ قضيةً في وجه الظالم الفاسد، سجّلَها التاريخ، لتكونَ نموذجًا للأحرارِ الذين يرفضونَ الذلَّ والهَوان، ويرفضونَ موتَ الإنسانيةِ في داخلهم.
كلُّ الناسِ اليومَ معنيّون بهذا الجرح، مسلمين ومسيحيين وكل أبناء الديانات السماوية التي تلتقي عند الأصول والتعاليم ذاتها، فلا فرقَ بين ظلمٍ وقعَ بمسلمٍ وظلمٍ وقعَ بمسيحيّ. ولا فرقَ بين جراح الحسين بن عليٍّ وآلام المسيح عيسى عليه السلام. فهؤلاء الرسل والأولياء والأئمة قد بُعِثوا ليتحمّلوا الآلام العظيمةَ من أجلِ أن يبقى كتاب الله حيًا فينا، قرآنًا وإنجيلًا وتوراةً.. لقد بُعِثوا لكي نتذكّرهم كلما تألمنا وجارت علينا الحياة، فندركَ أنّ أوجاعَنا لا شيء أمام ما تحمله هؤلاء الصفوة والقديسون والأولياء.
مثقّفو العالم أدركوا هذه الحقيقة، فكان الحسين بالنسبةِ إليهم معلّمًا وإنسانًا نموذجيًا صارت قصتُه عبرةً ودرسًا تاريخيًا. تماماً مثلما هز الصوت الحسيني البطل وهب المسيحي فلا يزال هذا الصوت متجدّداً يهزّ الضمائر الحرة من الشعراء والكتاب المسيحيين الذين وجدوا في وهب أسوة حسنة، فتجسد ذلك في شعرهم ونثرهم.
وأضاف خامه يار: لن أستحضرَ المثقفين والمفكرين من الشرقِ والغرب جميعًا فيما قالوه في الحسين، ومن العالم العربي من مصر وصورة الحسين في الخيال العربي المعاصر من منظور عبدالرحمن الشرقاوي والعقاد وطه حسين وآخرين، إلى الشام ونزار قباني والعراق وبدر شاكر السياب وكثيرين بعد. لكني –خصوصاً- أٌقفُ اليوم لأتذكّرَ أبرزَ قاماتِ الفكر اللبناني ممّن كتبوا وقالوا وأنشدوا ونظموا في الحسين وواقعة عاشوراء، فكان عشقُهم جليًا واضحًا وكانت كلماتهم ناضحةً بالحبّ والإنسانية والتعاطف، وكان فكرُهم زاخرًا بمعاني الحرية والشرف والإباء، فما أكثرَهم إنصافًا وحكمةً! وما أعظمَهم نصرةً لكلمةِ الحقّ في كل زمان!
فإلى جانب الأسماء الكبيرة التي عرفناها، عبدالمسيح أنطاكي، ريمون قسيس، سعيد عقل وأمين نخلة ونصري سلهب وخليل فرحات وجوزيف الهاشم، سليمان كتّاني، بولس سلامة، جورج جرداق، جورج شكور، فيكتور الكك، إدوار مرقص، وآخرين، يتشكّلُ جمعُنا الكريم اليوم من نخبةٍ من هؤلاء الأحرار العرب واللبنانيين، أنطوان بارا الذي كتب عن الحسين في الفكر المسيحي ما لا توفيه حقّه الكلمات، ميشال كعدي الذي قال الكثير في العالميّة الحسينيّة، جان قسيس الذي قال إنّ جرحُ الحسين جرح الكون الذي لا يندمل، المطران جورج صليبا الذي قال إنّ الحسين جوهرة أرسلها الله من السماء لتنير الطريق، ميشال جحا الذي قال إنه يعبدُ ويعشقُ الإمام الحسين مذ كان طفلًا، المطران عصام درويش الذي قال أنا مسيحي حسيني وإنّ كربلاء ليست مدينة بل هي العالم بأكمله، وإنهم لن يستطيعوا بقطع رأس الحسين أن يقطعوا رأس الحقّ، والياس زغيب الذي ينحتُ حبَّه في الحسين كلماتٍ وأدبًا.
هذه هي كلماتُ الأحرار في الإمام الحسين عليه السلام. لا أقولُ أكثر، بل أتركُ لكم الكلام أيها السادة والكبار الأفاضل، داعيًا الله أن يعظم لكم الأجر في مصابِنا ومصابِكم بالحسين عليه السلام.
أختمُ ببيتٍ للشاعر إدوار مرقص:
أيَهابُهم سبطُ النبــــــــــيِّ وعندَهُ *** جيشٌ من الإيمــــــانِ ليسَ بنافدِ؟
حسبُ الفتى من قوةٍ إيمــــــــانُهُ *** ولـ ((كربلاءَ)) عليه أصدقُ شاهدِ
ثم بعد ذلك، تحدّثَ رئيس أساقفة الفرزل وزحلة والبقاع المطران عصام درويش، الذي قال: أتشرف بأن أتوجّه إليكم بكلمتي بمناسبه عاشوراء هذه السنه حول تجليات عاشورائية من وحي اللاهوت المسيحي. أنتم تعلمون أن هذه المناسبة هي عزيزةٌ على قلبي وعلينا جميعًا.
أنا كمسيحي عربي أعتبر أنني معنيٌّ بهذا الحدث التاريخي والديني المهم وأفهم جيدًا بأن عاشوراء ولو أنها مأساة انسانية كبيرة، إلا أنها انتصارٌ واضحٌ وجلي على الألم وعلى الخيانة، وفي عاشوراء أيضًا أوجه شبه كثيرةٌ مع مأساة الإنسان التي تلازمه طوال حياته وفيها أيضًا أوجه شبه مع المسيحية، ففي صلب المسيح وقيامته انتصارٌ على خيانة الإنسان فيهوذا الذي كان أحد تلامذه اليسوع خانه وباعه بثلاثين من الفضة وأسلمه لليهود الذين أسلموه وبدورهم الى الرومان ليصلبوه، في هذه الماساة أيضًا انتصار على الألم والموت.
وكمسيحي أرى في عاشوراء وثبة حياة جديدة، وولاء مطلق لله والوطن وهي أيضًا توبةٌ عميقةٌ وعودةٌ إلى الله وإلى الإنسان الآخر.
وأضاف درويش، تذكرني عاشوراء بواقعة يوحنا المعمدان السابق والملك هيرودس، وفي كربلاء أيضًا قطع رأس الحسين، الإمام الثالث و سيد الشباب، لكن الحق في عالمنا لم يقطع والذل والمهانة هزما و لا بل بدأنا نشهد انتصار العزة والكرامة وفي استشهاده لبس حلة السماء، اي حلة الخلود. في مفهومنا اللاهوتي المسيحي ينفتح الإنسان علي الله من خلال الشر والالم، فالايمان لا يحجب الخطيئة والشر ولا يبررهما، ولا يتغافل عن ألم الإنسان، إلا أن الإيمان يرتكز على آلام الإنسان، فآلام المسيح مثلًا بررت المؤمنين وصلحتهم مع الله، من هنا جاءت وصية المحبة وبخاصة محبة الأعداء لكي لا يقصي أحدا من الناس مهما كان خاطئًا عن الخلاص. هكذا أيضًا نفهم عاشوراء، فمن رحم الألم يتدفق التضامن والعدالة والتعاطف والتاريخ سيذكطر هذا الحدث، هذه هي قيامة الإنسان الحقيقية.
خرج الامام الحسين الى الكفاح وارسل كلمة الحق الى العالم، إلى المستقبل وإلى التاريخ، ثم سقط سريعًا لكن سقوطه أعطى للشهادة قداسةً وأعطى للحياة وثبهً.
وكانت بعد ذلك كلمة الأديب والشاعر الدكتور ميشال جحا، بعدما رحّب بالحاضرين فردًا فردًا، فقال متوجهًا بقصيدته للحسين:
“ربيع الشهادة”
من ربوعيَ (من لبنان العظيم) كربلاءُ سلاما
طيّبتهُ عنادلٌ وخزامى
كلما ضاع أو تسنّى شذاهُ
داخ لبنانُ للعراقِ هُياما
ثم من قصيدة “شرف الشهادة” ألقى هذه الأبيات:
صلّوا على بكر الشهادةِ للعلى
لا حول يا أبناء فاطمةٍ ولا
من بعد فادي الكونِ في إنسانِه
شرفُ الشهادةِ قد أُنيطَ بكربلا
يا بنَ الكرام ووجهَ خيرِ فتوةٍ
آثرتَ ما نبلَ المواقف أشعلا
فإذا الطهارةُ من دمائكَ كوكبت
أممًا بها الإسلامُ أمجادًا علا
في شرعِ أيّ ديانةٍ عبر الورى
ابنُ المكارمِ والتقى أن يُقتلا
يتناوبونَ الطعنَ وهو مضمخٌ
بدمائه بتجلدٍ متجمّلا
كم مثّلوا فيه وقبلتُه السما
يدعو إلى ربّ العبادِ توسّلا
أما الأديب الدكتور ميشال كعدي، فقال في كلمته: أيُّها النشُد على مدّ العمر، عشنا معًا على قدسية الكلمة، نؤمن بها سلطانًا، ونعلو بها أداءً، حتى ينبريَ عظيمٌ، ذلك الشهيد في سبيل الله، الذي بذل ذاته فدى قضيةٍ سماوية، ومبدأٍ وعقيدة، وهنا يسودُ السكوت، وتستريحُ اليراعة. هو الشهيد وفي ذكرى عاشوراء، يمرّ ببالي المسيح. جمعتُ أحرفًا معمّدةً بدم الحسين، ثم عدتُ إلى ما يشبه الرمز، والتلميح، والإيماء جامعًا نفسي في خشوع التأمل، والأصقاعُ وسعًا، لأرى تلك الجبهة الغراء، التي أملت على الدنيا من رسالاتٍ ملؤها الحكمة. أيها الناس، في الحياة أوقاتٌ مصيرية، تمتاز بمفارقَ تتلمَسُ السبل، وفي الدنيا وجوهٌ طليعيةٌ، شالت بأجنحة البطولة إلى فوق، ثم ألقت في الملأ زاد العبقرية، فعطّلت مقاييسَ الكفر، حتى غدت خارج تشارف القرون. تلك القامات، غابت. فتحولت إلى أسماء، أما الإمام الحسين، فمُسَّ برؤيةٍ وعظمةٍ ربانية كالمسيح، وفي كل مرة، كلما ذكرت عاشوراء، وفي كتابي الحسين قدوة ورسالة، أقول، كأنما كوّر بالفضائل والقيم والمناقب، فتألق بالنور وأسلاك النبوة. هذا المعرق في النسب، سليلُ الأحمدية، والمَحتِد والأصلاب الشامخة. وعندما أراد الإسلامُ انطلاقةً ليبقى، وثبَ إلى الموت وثبةً أسدية، مدافعًا عن حق، حق الله والإسلام والكرامة الإنسانية، راسمًا بخبيءِ النياط، درب الجنة والمرسلين، باسمًا الشهادة، رافضًا المآثم، خادمًا للدين الحنيف، لقد أضاف على سلومه العلويّ ونسبه غرَّ الصفات الحسينية، التي عرفت بالنخوة، والرفعة، ونكران الذات، والفروسية، وملامح لا تزول. والدليل أنكم منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، أنتم تبكون الحسين بحزن، وأنا أبكيه بحزنٍ وفرح، ولو لم يستشهد الإمام علي والإمام الحسين لما كان للإسلام مكان حتى اليوم.
وأضاف كعدي، الحسين بقي على ضراوة النضال مبرورًا لا تلين له شكيمة، هازئًا بالنتائج مكتفيًا برضا الخالق. هذا هو الحسين وهكذا ترك لكم وللأجيال أن تنعم بدم شهادته ثم أبقاها سراجًا للأمة الفاشلة ونورًا عاشورائيًا إلهياً، إنها أروع ملاحم كربلاء. الحسين حضرَ وهو يبتسمُ من دون أن يلبسَ الأقنعة، رافضًا المصافحة ملقّنًا الأجيال بأن الحياة تبنى على الجرأة، والعنفوان، وتحديدًا الحرية، لا على الابتذال إطلاقًا. الحسين شغلته هزة المجتمع إبان تلك الفترة، فصحا إلى تبعاتٍ إرثية، ومن ثم انتفضَ إلى مساعدةٍ على وقع الشجاعة وصواب الرأي، ملهبًا صدور الشباب في وجه الاعتداء والظلم، ونحن المسيحيين نرفض الظلم على الإطلاق.
وختم قائلًا، إذا كان الشهداء يأخذون أمكنةَ الصدارة، فأي مكانٍ لشهيد كربلاء!
بعد ذلك كانت كلمة الأديب المفكر الدكتور أنطوان بارا ، الذي قال: في هذه المناسبة الجليلة التي تذكرنا بملحمة الفداء الخالدة التي شهدتها أرض الطف المباركة، تتبادر إلى الأذهان تخرّصات أولئك الموتورين الذين وصفوا نهضة السبط (ع) بالارتجالية متناسين تدابير العناية الإلهية التي رسمتها بالشكل الذي بدت فيه. ورغم ما قاله الحسين عن حركته بأنها أمرٌ من جدّه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وبأنها مسيّرةٌ بمشيئة الله .. المشيئة العليا التي جعلت إبراهيم الخليل (ع) يحطم آلهة قومه غير عابئٍ بنار النمرود التي أوقدها لحرقه حيًّا، وهي المشيئة التي دفعت بكليم الله موسى (ع) ليقف أمام الفرعون المتأله ملك النيل ويصيح في وجهه” أنت ضالٌّ مضلّ” ومشيئة الواحد القهار التي دفعت بيحيى (ع) لمواجهة هيرودس عندما أراد الزواج بامرأة أخيه قائلًا له: إنها لا تحلّ لك. ولما رقصت سالومي ابنة هيروديا إحدى بغايا بني إسرائيل قدم لها هيرودس رأس يحيى على طبقٍ من ذهب. وهي المشيئة التي رسمت لعيسى (ع) مواقفه فقال لأحبار اليهود “أنتم أبناء الشياطين، رغم علمه بأنه سيفشل. هي المشيئة العليا التي أوحت للنبي محمد (ص) اليتيم الفقير لتسفيه أحلام قريش وسبّ آلهتهم وحمل الرسالة والاندفاع بها مهددًا كسرى وقيصر شرقًا وغربًا.
وأضاف بارا: كان يزيد يهدف إلى القضاء على عترة الرسول وإفنائها، لكنّ الحقّ الإلهي تجلى للمؤمنين وما نشهده هذه الأيام من زحف الملايين إلى مثوى الإباء والكرامة في كربلاء بزيارة الأربعين التي شهدتها بنفسي وكنت مشاركًا فيها من النجف إلى كربلاء، دفعني إلى مخاطبة يزيد من فوق منصةٍ في الصحن الحسينيّ في العتبة الحسينية المقدسة: أنظر يا يزيد للملايين من عشاق الحسين الذي أردتَ إخفاء ذكره. انظر من قبرك في حي النوفرة بدمشق الذي لا يعرفه أحد في خرابة مهدمة بلا سقف. وختم بارا وهو يلقي أبياتًا للحسين منها:
هذا ضريحُكَ روضةُ فوحٍ
خالطَ مسكُ ترابِها العبقات
حسينُ جئناكَ بعدَ عهودٍ
أنصارًا سيوفنا من حسرات

ثم تحدّث نقيب الممثلين السابق الدكتور جان قسيس فقال: لستُ أدري لماذا حين أعود إلى سيرة أبي عبدالله الحسين بن علي عليه السلام، تحضرني عنوةً سيرة السيد المسيح له المجد. وأظنني لا أغالي ولا أحابي، فإن ما بين السيرتين قواسم مشتركةً عديدة، وملامح مأساةٍ متشابهة، حبكتها هناك مطالب الحق والإباء وكتبها هنا فعل الطاعة والفداء. وإذا أمعنا في المقاربة والمقارنة، لرأينا المعاناة نفسها قائمةً في السيرتين، أمام معصوم هناك، ورسولٌ إلهيٌّ هنا، تنكرت لهما بيئتهما ونبذتهما عترتهما وانفضّ عنهما كل مكابرٍ ومنافق، ولم يبق معهما إلا أهل الإيمان والحق. في السيرتين محبةٌ وتواضع وسعيٌ إلى المحبة والسلام ودعوةٌ إلى التلاقي على العبادة الموحدة وطيبةٌ ونكرانٌ للذات، وفي السيرتين ايضاً خيانةٌ وغدرٌ ثم إذعانٌ لمشيئة الله تعالى فاستشهادٌ كرس المفاهيم الأسمى للقيم العليا، وخطّ دستورًا خالدًا لمعاني التضحية وعلمنا كيف نواجه ظلم البشر وعتوّ القدر.
وقال قسيس: أنا ابنُ المسرح، وفي المسرح تعلمتُ معنى أن يتحول المرء بطلًا تراجيديًا وقدوةً مأساوية، حين يمضي إلى مواجهة قدره، غير آبهٍ بما تجره إليه تلك المواجهة من ويلاتٍ ومآسٍ ويصمّ إذنيه عن كل ما قد يثنيه عن عزمه، ويضع نصب عينيه نصاب الحق، عالمًا أنه قد لا يحقق مبتغاه، لكنه حتما سيقدر على أن يترك على جبين ذلك القدر بصمة عزٍ ونزعة خلود. إنّ الحسين عليه السلام كان أعظم بكثيرٍ من بطلٍ تراجيديّ، وما تركه على جبين التاريخ والزمان أكبر من بصمةٍ وأهم من نزعة. لقد علمنا أن الاستشهاد في سبيل قضايا الحق ليس نزوةً أو تهورًا بل هو قناعةٌ مقدسةٌ ثابتة تنبع من العقل والقلب معًا.
بعدها كان الكلام للأمين العام لاتحاد الكتّاب اللبنانيين الدكتور الياس زغيب الذي اختتم الندوةَ بحديثه، حيث قال: على قارعة الوقت تجلس أحلامنا العتيقة وماضينا الجديد، فنمرُّ ملتحفين أجسادنا المختلفة وجوهرنا الإنسانيّ الفريد؛ نمشي نحو مصير واحد وهدف واحد وخالق واحد، فنحن وإن فرّقتنا الطريقة جمعنا الطريق. ولعلّ أديارَ الرهبان المسيحيّين التي كانت تنتشر في شبه الجزيرة مستضيفة الهاربين من ظلمٍ واضطهاد، وجوامعَ المسلمين المستضيفة المسيحيّين ليقيموا صلواتهم فيها خير دليل على ذلك!
أضافَ زغيب قائلًا: وهذا السلوك الثقافيّ التنويريّ ليس بغريبٍ عن السريان ولا عن الإيرانيّين ورثة الحضاريّة الفارسيّة، وقد كان لكلّ منهما دور أساس في ازدهار الحضارة العربيّة وانتشارها وتوسّعها على مستوى الفكر والفلسفة والعلم والأدب والفنّ وغيرها… عسى أن يكون هذا التّعاون فاتحة لنهضة حضاريّةٍ جديدةٍ. لكلِّ زمان بيلاطس ويزيد، وما أشبه اليوم بالأمس! فكلّ يوم يصلب المسيح فينا ويستشهد الحسين، ويضطهد أتباع مارون… دروبنا جلجلة لا تنتهي، وكربلاؤنا معركة يسقط فيها المظلوم منتصرًا على الظّالم.. نعم، لو لم يكن المسيح قد مات وقبر وقام لما انتصرت الحياة على الموت، ولما وُلِد نور القيامة من رحم العتَمة؛ ولو لم يستشهد الحسين لما انتصر المظلوم على الظّالم، ولما أعشبت الصحراء بالحق والحريّة. لقد ظمئ الحسين في كربلاء، وسقي المسيح خلاًّ على الصّليب…
ما أشبه اليوم بالأمس! فوطني معلّق على خشبة الانتظار، وحيدًا يواجه لصوص المؤامرة، وحربة الفساد تطعن خاصرته؛ ونحن أبناءَ المحبّة والرّجاء، نئنّ مع مريم تحت الصليب، ويخيفنا أن يبايع الشعبُ يزيدًا أو أن يبرَّأ برأبّا من جديد!
ثم ألقة بالعامية أبياتًا كان لها أثرٌ جميل في نفوس الحاضرين:
كان الزَّمن… خاتم سَما بْيَدَّك
وجِدَّك، يسِنّ العَتم عا حَدَّك
وتقعُد بِحضنو تفلفِش الإيَّام
وتدهَن بِصَوتو جبِهتَك وتنام
ويِنزَل هلال يبوسَك بْخَدَّك
تكبَر شهامه… تصير بالأحلام
من طهر بَيَّك… من صلا جِدَّك
سيِّد شباب الأرض عا هالأرض
ومفَصَّله الجَنِّه على قدَّك

بالمعرَكه… عم عِدّ لفتاتَك أنا
وسيفَك يْشِقّ الظّلم عَ الـمَيلَين
يمرق حصانَك… فشختو جيلَين
صاروا كتار، وطعنة الخَنجَر، مِنا
يزرب الدَّمّ، يتوّجَك بشهادتين،
ويبقى معَك صوتين:
صوت الحَقيقه لْ تحت سَيفُن ما انحَنى
وصوت البطوله لْ كلّما بِترِفّ عَين
عم تندَهو… ويكسِرلَك صْيام الفَنا
ويجاوبَك: “لبَّيك يا حُسَين”
… لَبَّيكَ يا حُسَين!
وقد قدّمَ للندوة الإعلامي والباحث الدكتور علي قصير، الذي افتتحَ الكلامَ قائلًا: الولوج بالحديث الهادف عن الإمام الحسين فيه متعةٌ روحيةٌ وسياحةٌ فكريةٌ وتاريخية، تحمل بالمناديل المعطرة التي يفوح منها أريج مسك الزنابق والورود التي تعطر الوجود. هو الرمز الإنساني الذي يمثل البعد الاخلاقي لدى جميع المؤمنين بحرية الإنسان من كافة العقائد والأديان والأنساق الثقافية والفكرية والجمالية والفنية التي تعاملت مع روح الإمام الحسين بالعدل شعرًا وأدبًا وقصةً وروايةً وتشكيلًا ومسرحًا. كل ذلك يدلل على أهمية هذه الشخصية المتفردة بتاريخها الإنساني. ومهما اجتهد الباحث والمفكر في الغوص بسيرة الإمام الحسين وعبقريته لا يصل إلى حدود الحسين المسكون بحبّ الله والدفاع عن الإنسان. الغوص في عبقرية الإمام الحسين لا يحتاج إلى التبجيل بل إلى الاقتداء بسلوكه بالحكم وتطبيق سيرته وعلاقته بأخيه الإنسان. فكما أنصف معظم المؤرخين تلك السيرة العطرة على مدى العقود والقرون، فإننا نجد عشرات بل مئات المسيحيين الذين تأثروا بسموّ روح الحسين وعلوّ منزلته ومبدئيته وفلسفته. هو الحسين بشخصيته الممتلئة حكمةً وسخاءً وفروسيةً وزهدًا ورأفةً وتضحيةً وإيثارا.

شارك المقال:

زر الذهاب إلى الأعلى